Sunday, May 4, 2008

أن تمشي في جماعة

من موقع اسلام اون لاين
*****
أخي الكريم ، حيَّاك الله ومرحباً بك، وشكراً على سؤالك الهامِّ والشائك في نفس الوقت.
ولا أكتمك سرًّا أنَّ سؤالك هذا حسَّاس،
والخوض فيه يحتاج إلى حرصٍ وحذر، لأنَّ الداخل فيه شاء أم أبى سيغضب طرفاً من أطرافه الكثيرة المتنوِّعة المتشعِّبة، وما لم يكن المرء محصَّناً بالدليل والحجَّة الشرعيَّة فسيلقى العديد من المشكلات والالتباسات بل والاتِّهامات. ولذلك
تعمَّدت أن أستعدَّ قبل الخوض في الأمر، بالبحث والتنقيب والاستدلال، حتى يكون لكلامي معنى، ولحديثي وجه، ويهمُّني أن أشير إلى أنَّني لم أدخل هذا المجال وأنا مقتنعٌ برأيٍ ما وأخذت أبحث له عن دليل،
ولكنِّي دخلت فيه وأنا "محايد"، حتى لا يكون لرأيي أثرٌ في استدلالي،
بمعنى أنَّني لم أعتقد لأستدلّ، وإنَّما استدللت لأعتقد.
إخواني الكرام قارئي هذه الكلمات، لقد حاولت أن أكون موضوعيًّا منصفاً في ما كتبت، وكلُّ ما أطلبه منكم هو أن تكونوا موضوعيِّين منصفين في ما تقرءون.
أعود إليك أخي صفوت لأضع لك خلاصة ما توصَّلت إليه من بحثي أوَّلا،
وهو ما يخالف عادة الباحثين من تأخير الخلاصات إلى آخر البحث،
وذلك لأنَّ البحث طويل، فأحببت أن أريحك وأريح الإخوة القرَّاء الكرام بوضع الخلاصة، ومن أراد الاستزادة،
فليقرأ التفصيل الذي يلي الخلاصة، وستجد في البحث الإجابة على كلِّ أسئلتك إن شاء الله تعالى.
أقول وبالله التوفيق: * الخلاصة:
- جماعة المسلمين هي الأمَّة، أو السواد الأعظم من الأمَّة حسب اصطلاح الفقهاء.
- الجماعات الموجودة لا تستند في تأسيسها إلى نصوص السنَّة المطهَّرة الواردة في لزوم الجماعة ووجوب البيعة إلا على سبيل الاستئناس، وإنَّما استنادها إلى النصوص العامَّة التي تحضُّ على التعاون على البرِّ والتقوى، وتنهى عن الفشل والتنازع، وفي هذا السياق عليها أن تسعى بكلِّ طاقتها للتعاون والتكامل والتعاضد، والابتعاد كلَّ الابتعاد عن التقاتل والتنازع والتخاصم.
- البيعة المعقودة لهذه التجمُّعات بمثابة العقد، والطاعة لها تكون في حدود ما اتُّفِق عليه في هذا العقد، ويكون التحلُّل منها عند الاقتضاء بإنهاء هذا التعاقد.
- مفهوم الجماعة أو التجمُّع أشمل من مجرَّد ما تعورف عليه اليوم بـ"الجماعات الإسلاميَّة" بل يشمل كلَّ هيئةٍ أو مؤسَّسةٍ أو جمعيَّةٍ من هيئات ومؤسَّسات وجمعيَّات المجتمع يمكن خدمة الإسلام من خلالها، إذ خدمة الإسلام هو الغاية، والكيانات هي الوسيلة، فبأيِّ شكلٍ كانت تبقى وسيلة، مجرَّد وسيلة.
- إذا لم تكن هذه التجمُّعات هي جماعة المسلمين، فلا مانع من عمل المسلم في جماعةٍ أو في أكثر من تجمُّعٍ منها، والتزامه بها طالما حقَّق ذلك مصلحةً للأمَّة، وانتفى التعارض بينها أو أمكن الجمع بينها.
- اقتضت الضرورة الشرعيَّة الاجتماع لأداء بعض الفرائض التي لا يمكن أداؤها إلا بالاجتماع، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
- إذا كان الأصل هو السعي من خلال تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات القائمة إلى إيجاد جماعة المسلمين بالمعنى السياسيّ، فإنَّ بعض الناس لا يتسنَّى له أداء الدور إلا خارج هذه الأطر، أو تكون مصلحة العمل الإسلاميِّ في مكانة خارجها أغلب من المصلحة في لزومه لها، فهؤلاء يترجَّح في حقِّهم ما يحقِّق أكمل المصلحتين، وإذا عُرِف مقصود الشارع سُلِك في حصوله أوصل الطرق إليه.
تفصيل البحث:
* معنى الجماعة لغة: الجماعة مأخوذةٌ من الاجتماع وهو ضدُّ التفرق، يقال جمع الشيء عن تفرِّقه فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من ههنا وههنا. وهذا الاجتماع قد يكون حسيًّا كاجتماع الناس في مكانٍ ما، وقد يكون معنويًّا كاجتماع الأمَّة على الإيمان بالله ورسوله مثلا.
* مفهوم الجماعة في النصوص الشرعيَّة: لم يرد لفظ الجماعة في القرآن الكريم وإن كان معنى "الجماعة" قد ورد عدَّة مرَّاتٍ مرتبطاً بالترغيب في الالتزام بها، والنهي عن التفرُّق والتنازع والفشل. ولكنَّ لفظ "الجماعة" قد كثر وروده في السنَّة المطهَّرة: والمتتبِّع لمواضع ورود هذه الكلمة في السنَّة يجد أنَّها تأتي دائماً في مقابلة التفرُّق المذموم، وذلك في مثل: - قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة وإيَّاكم والفرقة"رواه أحمد الترمذيّ،
وقال: حديثٌ حسنٌ غريب. - وورد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "...فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية"رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم،
وقال: هذا حديثٌ صدوقٌ رواتُه. - وكما في حديث حذيفة بن اليمان الشهير في الصحيحين، ومطلعه: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني"، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، وقد عنون الإمام مسلم باب الحديث بـ: "باب وجوب ملازمة الإمام عند ظهور الفتن، وفي كلِّ حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة".
وانصبَّ مفهوم الجماعة في نصوص السنَّة المطهَّرة على مفهومين: الأوَّل: مفهومٍ اعتقاديّ، ويشير إلى الدعوة أو المنهج الذي تحمله هذه الجماعة،
والثاني: مفهومٍ سياسيّ، ويشير إلى الدولة أو النظام السياسيِّ الذي ينشأ لحماية هذا المنهج والتمكين له في واقع الحياة، فإذا جُمِع بينهما تحقَّق المدلول المتكامل والنهائيُّ لمعنى الجماعة،
وتفصيل ذلك التالي:
أوَّلا: المفهوم الاعتقاديّ: وفيما يلي بعض النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع على الأصول الثابتة بالكتاب والسنَّة والإجماع، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الحقِّ واتباع السنَّة: 1
- ما رواه أبو داود وابن ماجه عن معاوية رضي الله عنه النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنَّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنَّة، وهي الجماعة"وروى الترمذيُّ نحوه، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
2- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". والجماعة بهذا المعنى لا يشترط لها كثرةٌ ولا قلَّة، بل هي موافقة الحقِّ وإن خالفه أكثر أهل الأرض، أو هي: ما وافق الحق ولو كنت وحدك، وقال نعيم بن حماد رحمه الله: "إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك حينئذ".
ثانيا: المفهوم السياسيّ: وفيما يلي بعض النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع بالأمَّة، وطاعة الإمام، وعدم الخروج على الجماعة والنظام العامِّ للدولة:
1- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات مِيتةً جاهليَّة" (لاحظ هنا دقَّة النصّ، رؤية الخطأ من الأمير، والخروج على الجماعة وليس على الإمام، وهذا يؤيِّد فكرة أنَّ المراد هو الأمَّة وليس الإمام، والإمام لا يأخذ طاعته إلا من خلال الصلاحيَّات التي تعطيها الأمَّة له).
2- ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات مِيتةً جاهليَّة". والجماعة بهذا المعنى تقع في مقابلة البغي والتفرُّق في الراية.
* مفهوم الجماعة عند أهل العلم: انقسم أهل العلم في مفهوم الجماعة إلى قسمين:
الأوَّل: أنَّ الجماعة هي جميع العلماء من أهل السنَّة، أي الاجتماع على الحقِّ الذي تمثِّله القرون الثلاثة الفاضلة، ويحمل لواءه في كلِّ عصرٍ الثقاتُ العدولُ من أئمَّة أهل السنَّة، وهم يمثِّلون السواد العامَّ من المسلمين، لأنَّ العامَّة بالفطرة تبعٌ لهم.
الثاني: أنَّ الجماعة هي الأمَّة في اجتماعها على الإمام ما دام -في الجملة- مقيماً لأحكام الإسلام، أو هي السواد الأعظم من أهل الإسلام. والملاحظ أنَّ أصحاب الرأي الأوَّل قد خلطوا بين "جماعة المسلمين" و"أهل الشورى أو الحلِّ والعقد"، حيث اعتبروا من تعتبرهم الأمَّة ممثِّليها هم "الجماعة"، بينما هم مجرَّد ممثِّلين للجماعة لا أكثر، بل هم لم يأخذوا هذه الشرعيَّة في التمثيل إلا من خلال الأمَّة، فكيف تصبح الأمَّة بعد ذلك هي التابع، ويصبح الممثِّلون هم المتبوع؟؟ وعلى ذلك فالرأي الراجح في هذا –والله أعلم- هو أنَّ الجماعة هي "السواد الأعظم من أمَّة الإسلام" حسب اصطلاح الفقهاء. وهكذا تتَّفق دلالات النصوص، ومآلات أقوال أهل العلم في بيان المقصود بمعنى الجماعة وأنَّها تتضمَّن كلا المعنيين السابقين "الاعتقاديِّ والسياسيّ". ويتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها الاعتقاديِّ بالالتزام المجمل بالإسلام وذلك بالبقاء على الولاء للإسلام والرضا بشريعته وموالاة دعاته، سواء وجدت الجماعة ككيانٍ سياسيٍّ أم لم توجد. كما يتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها السياسيِّ بالانتظام في النظام السياسيِّ العامِّ الذي ارتضته الجماعة، أيًّا كان شكل هذا النظام أو نوعه أو من يقوم عليه، وما يقتضي ذلك الانتظام من الولاء والتزام الطاعة.
* معنى لزوم الجماعة: لا معنى إذن للزوم الجماعة إلا التزام ما هم عليه من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، جاء في الرسالة للإمام الشافعيِّ قال: "فما معنى أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد، قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرِّقةً في البلدان فلا يقدر أحد أن يَلزَم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرِّقين، وإن وجدت الأبدان تكون مجتمعةً من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنَّه لا يمكن، ولأنَّ اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها".
وتطبيق هذا الأمر على مفهوم الجماعة يعني: الأول: المفهوم الاعتقاديّ: ويعني ضرورة اتِّباع أهل السنَّة والجماعة فيما كانوا عليه من الاعتقاد والتحليل والتحريم ونحو ذلك.
الثاني: الجانب السياسيّ: ويعني اتِّباعهم فيما اتَّفقوا عليه من شكل النظام الذي حدَّدته الجماعة، والطاعة لهذا النظام في غير معصية، وعدم الخروج عليه إلا بالكفر البواح.
فكلُّ مسلم:
- ليس له أن يخرج عن منهج أهل السنَّة والجماعة في اعتقاده وتحليله وتحريمه.
- ليس له أن يخرج عن طاعة نظام الجماعة في غير معصية، سواء أكان المسلمون ذوي شوكةٍ وسلطانٍ أم لم يكونوا، كما في أوقات الفتن.
* مراتب الخروج على الجماعة: الخروج على الجماعة بأيٍّ من مفهومَيْها الاعتقاديِّ والسياسيِّ يحتمل مراتب ثلاث:
1- الخروج تأويلاً للنصوص: فمن كان له في خروجه وجه تعلُّقٍ بالنصوص ونوع تأويل لها، مع الإيمان بها في الظاهر والباطن، والالتزام بها جملة، فإنَّ فساد تأويله لا يخرجه من الملَّة، بل يبقى في دائرة الابتداع الذي تتفاوت درجاته غلظاً وخِفَّةً بحسب الأحوال، وفي هذه الحالة يكون الحوار والنقاش هو الطريق لمحاولة إرجاعهم إلى الحقِّ طالما لم يتحوَّل خروجهم هذا إلى خروجٍ السلاح والقتال، وأبرز مثالٍ على ذلك ما حدث مع الخوارج، حيث حاول الإمام عليٌّ رضي الله عنه حوارهم بالنصِّ والعقل والمنطق، ومجادلات ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما معهم خير دليل، ولم يقاتلهم الإمام عليٌّ إلا عندما بدءوا هم بالقتال.
2- الخروج طلباً للملك أو قطعاً للسبيل: وهو نوعان: - أن يخرجوا طلباً للملك بتأويل، وهؤلاء هم البغاة، وقد أشار القرآن الكريم إلى كيفيَّة التصدِّي لفتنتهم في قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنَّ الله يحبُّ المقسطين". - أن يخرجوا لقطع السبيل وأخذ المال والإفساد في الأرض وهؤلاء هم المحاربون، وقد أشار القرآن الكريم إلى جزائهم في قوله تعالى: "إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنَّ الله غفورٌ رحيم".
3- الكفر: وهو أيضاً نوعان: - الخروج ردًّا للنصوص بغير تأويل، أو تأويلاً يترتَّب عليه إنكارٌ لما عُلِم من الدين بالضرورة، أو استجازةً لما أجمع على تحريمه المسلمون، أو تحريماً لما أجمعوا على حلِّه، فلا شكَّ أنَّ إعلان ذلك ردَّة، وأنَّ الإسرار به نفاقٌ أكبر، وهؤلاء يخرجون بذلك من الدين ويفارقون به جماعة المسلمين، وإلى أمثالهم يشير الحديث السابق: "التارك لدينه المفارق للجماعة"، فلا شكَّ أنَّ كلَّ تارك لدينه فهو مفارقٌ للجماعة، لأنَّه قد فارقها فيما أجمعت عليه من الدين، فصار بذلك عضواً مفصولاً عن جماعة المسلمين. - الخروج كفراً بالإسلام ومعاداةً له وموالاةً لأعدائه، وحرباً عليه، وهؤلاء هم المرتدُّون الذين خلعوا بذلك رِبقة الإسلام من أعناقهم، وذلك كما كان من المرتدِّين في أيَّام أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه من مفارقةٍ للدين، ومظاهرةٍ على حرب المسلمين، وكالذين قتلوا القرَّاء الذين أرسلهم معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمُّوهم القرآن والدين فيما عُرِف بحادثة "الرجيع".
* مفهوم الجماعة اليوم: استمرَّ مفهوم الجماعة يحمل نفس معناه الاعتقاديِّ دون لبسٍ أو خلاف، أمَّا المعنى السياسيُّ فقد مرَّ بمراحل عديدةٍ حفلت بالوضوح حينا، وبالالتباس أحياناً كثيرة، ووصل المفهوم اليوم في أذهان العديد من الناس إلى مسلكَين خاطئَين:
1- إفراط: فمنهم من نازع في شرعيَّة الانضواء في تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات ابتداء، ذهاباً منه إلى أنَّ المقصود بالجماعة هو جماعة المسلمين، وهذه التجمُّعات ليست من الجماعة في شيء، وهم على صنفين: صنفٍ يعتقد ألا جماعة ولا بيعة إلا بعد التمكين ونصب الإمام، وصنفٍ آخر يرى أنَّ الجماعة موجودةٌ بالفعل، وبالتالي فلا حاجة لوجود مثل هذه التجمُّعات .
2- تفريط: ومنهم من غلا فقصر جماعة المسلمين على تجمُّعه الخاصّ، ولم ير لغيره شرعيَّة الانتساب إلى الإسلام أو الجماعة، فجعل لزوم جماعته جزءاً من أصل الدين لا تثبت صفة الإسلام ابتداءً إلا باستيفائه، واعتبر من لم يكن في جماعته كافرا، ومن كان في جماعته فخرج منها فقد خرج من رِبقة الإسلام، ورفض التقارب أو التعاون مع غيره من التجمُّعات والجماعات الأخرى. ولا يسع المجال هنا للردِّ التفصيليِّ على هؤلاء ولا أولئك، وسأكتفي بردٍّ مختصرٍ يفي بالغرض: - إنَّ الاستدلال على عدم شرعيَّة التجمُّعات القائمة في واقع العمل الإسلاميِّ المعاصر موضع نظر، وذلك لأنَّ الفِرَق التي جاء الأمر في الحديث باعتزالها هي ذلك الشرُّ الذي أشار إليه النبيُّ عليه الصلاة والسلام في الحديث قبل ذلك بقوله: "دعاةٌ على أبواب جهنَّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"متَّفقٌ عليه، والذي أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنده بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأذن بغير ذلك ولو كان البديل هو الاعتزال حتى الموت. قال الإمام النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعةٍ أو ضلال، كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة".
وقال الإمام الشاطبيُّ رحمه الله: "إنَّ هذه الفِرَق إنَّما تصير فِرَقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلِّيٍّ في الدين وقاعدةٍ من قواعد الشريعة، لا في جزئيٍّ من الجزئيَّات، إذ الجزئيُّ والفرع الشاذُّ لا ينشأ عنه مخالفةٌ يقع بسببها التفرُّق شِيَعا، وإنَّما ينشأ التفرُّق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلِّيَّة". وليست الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة من هذا القبيل لاتِّفاقها في الجملة على الالتزام المجمل بأصول أهل السنَّة والجماعة، ولسعيها جميعاً إلى غايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في إقامة الدين والتمكين لشريعة الله في الأرض، أمَّا ما يقع بينها من اختلافٍ فهو اختلاف خططٍ ووسائل، وليس اختلاف غاياتٍ أو عقائد. - وكذلك قصر مفهوم "جماعة المسلمين" على تجمُّعٍ بعينه، هو خطأٌ وزعمٌ لا دليل عليه،
فجماعة المسلمين –كما ذكرت آنفا- هي السواد الأعظم من أمَّة الإسلام، وهذه التجمُّعات أيًّا كان شكلها ليست الأمَّة ولا هي سوادها الأعظم، فمن أين أتى زعمهم هذا؟؟ وتبرز خطورة هذا الفهم القاصر حين تكرَّس الخصومة بين فصائل العمل الإسلاميّ، ويصبح التكفير قُرْبةً إلى الله تعالى، فكلٌّ منهم يتقرَّب إلى الله بإخراج الآخر من الملَّة، ويتعبَّد الله بقطع ما بينه وبين أخيه، وتزداد الفتنة عندما تنتقل هذه الخصومة إلى دائرة المنابر العامَّة، ويندلع لهيبها في أوساط الأمَّة، وأدنى ما يمكن أن يترتَّب على ذلك هو الزهد في العمل الإسلاميِّ كلِّه الذي يفقد احترامه بسبب هذه المهاترات، ويبدو في صورة الفِرَق المتناحرة والشِّيع المتلاعنة، وبدلاً من أن توجَّه هذه الجهود وهذه الطاقات إلى دعوة العالَمين إلى الله تعالى، تحوَّل إلى التكفير والتفسيق بل والضرب والقتل في أحايين كثيرة.
هذه الجماعات أو التجمُّعات ليست أيٌّ منها هي جماعة المسلمين، ولهذا فإنَّها ليست نهاية المطاف، ولا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، ولا كلُّها مجتمعة، وبالتالي فليس هناك من زعمٍ في اعتبار هذه أو تلك هي الأصل وغيرها ليس كذلك، وليست هناك من مشكلةٌ في وجود جماعةٍ واثنتين وثلاث، طالما لم يتعدَّ الأمر كونها مجرَّد خطواتٍ مرحليَّةٍ في الطريق إلى جماعة المسلمين، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ. علماً بأنَّ هذه التجمُّعات الموجودة قد نشأت لمواجهة تحدِّياتٍ معيَّنةٍ واجهت الأمَّة في القرن العشرين، وإطلالةٌ سريعةٌ على أسباب تكوين هذه التجمُّعات تنبئ بذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ هذه التجمُّعات تصبح تكامليَّة لا تصادميَّة، بمعنى أنَّها كلَّها في صفٍّ واحد، وكلَّ واحدةٍ تقف في مواجهة تحدٍّ مختلفٍ عمَّا تواجهه الأخرى، فيكون الجمع هو الصحيح لا المواجهة.
وعلى هذا يكون السؤال: ماذا على المسلمين اليوم؟ هل عليهم الالتزام في جماعةٍ بعينها؟ أم الأَوْلى الابتعاد عنها كلِّها؟؟ لست هنا بصدد الإجابة بالنفي أو الإثبات، بقدر ما أنا معنيٌّ بإبراز وتوضيح المسألة، وترك كلَّ إنسانٍ يجيب عن السؤال كما يختار ويرغب. وقبل التوضيح أشير إلى أنَّ هذه الجماعات هي وسائل لا غايات، فإنَّنا حين نرغب في الوصول إلى مكانٍ ما مثلاً نختار أفضل وسائل المواصلات التي تؤدِّي الغرض وتصل بنا للغاية، وكذلك الأمر حين نرغب في الانتماء لكيانٍ ما، فإنَّنا نختار من هذه الاتجاهات ما كان أرجى للمسلمين، وأبصر باعتبار المآلات والموازنة بين المصالح والمفاسد، وأنسب لاستيعاب قدراتنا وملكاتنا والاستفادة من طاقتنا ومواهبنا لصالح العمل الإسلاميِّ الشامل، والأولويَّات التي قد تتغيَّر وتتبدَّل حسب الاحتياجات والتحدِّيات. إذا كان الأمر كذلك يصبح تحديد انتماء أحدنا مرتبطٌ بقدرته على تقديم أقصى جهدٍ في هذا السياق، بعيداً عن الأسماء والمسمَّيات، والأشخاص والهيئات، فمن كان أداؤه الأَوفى والأعلى حين يعمل منفرداً فليعمل، ومن كان يعطي كلَّ طاقته حين ينتمي لجماعات إسلاميَّةٍ فلينتمِ، ومن كان يجد نفسه وطاقته من خلال جمعيَّات المجتمع ومؤسَّساته فليسارع إلى الاشتراك فيها، دون إنكارٍ من أحدٍ على أحد، ولا لوم أحدٍ لأحد. إنَّنا كلُّنا قد فعلنا ذلك رغبةً منَّا في القرب من الله تعالى، وحرصاً على خدمة دينه ورسالته، وخوفاً على الأمَّة من الضياع، فعلامَ الخلاف والنزاع واللوم والتلاوم؟؟
علينا أن نقبل بعضنا أيًّا كان موقعنا إن كنَّا اتَّفقنا على الغاية واختلفنا في الوسيلة، بل علينا أن نقبل فكرة انتماء الشخص لأكثر من كيانٍ أو هيئة، ما المانع أن يكون المسلم عضواً في جمعيَّةٍ وجماعةٍ في آنٍ واحد؟ بل ما المانع من أن يلتزم في جماعتين طالما يحقِّق ذلك الخير للفرد وللأمَّة؟ فإن حدث تعارضٌ ما يُترَك تقدير الأمر للفرد حسب ما يرى من خدمة دينه وأمَّته، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بنظم وقواعد التجمُّع الذي انتمى إليه طالما رضيه وارتضى الانتماء إليه، إذ الالتزام هنا ليس التزاماً شرعيًّا باعتباره جماعة المسلمين، ولكنَّه التزامٌ إداريٌّ تنظيميٌّ لتسيير العمل وانتظامه.
هذه النقطة – في ظنِّي- جديرةٌ بالتفكير والتدبُّر، وحريٌّ بنا أن نعيد النظر من خلالها في العديد من "الثوابت الحركيَّة" إن صحَّ التعبير. وبعد هذه المقدمة، جاء دور التوضيح: أرى أنَّ المسلم أمام أمرين:
الأوَّل: الالتزام باتِّجاهٍ من الاتِّجاهات القائمة باعتبار ذلك خطوةً مرحليَّةً في الطريق إلى جماعة المسلمين، والسعي من خلاله إلى إيجاد هذه الجماعة بمفهومها العامِّ والشامل. وفي هذا ينبغي التنويه إلى أنَّ المقصود بالالتزام هنا الالتزام بتجمُّعٍ ما بمفهومه العامِّ الذي يشمل: الجماعات الإسلاميَّة- الخيريَّة- جمعيَّات ومؤسَّسات المجتمع.. إلخ. على أن لا يعتبر انتسابه لهذه الجماعة هو نهاية المطاف، فهذه التجمُّعات وسائل لغايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في جمع الكلمة وتنسيق الجهود في سبيل خدمة الأمَّة، فهي خطوةٌ مرحليَّةٌ على الطريق. وأؤكِّد على أنَّ هذه الجماعات والتجمُّعات لا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، وإنَّما هي خطواتٌ مرحليَّةٌ في الطريق إليها، وأنَّ التزام المسلم بـ"جماعة المسلمين" بمفهومها العامِّ والشامل أسبق من التزامه بهذه التجمُّعات الجزئيَّة، لأنَّ الأوَّل واجبٌ بأصل الشرع، فهو الذي دلَّت عليه النصوص، وانعقد عليه الإجماع، أمَّا الثاني فمستَنَد وجوبه هو المصلحة الراجحة، وكونه ذريعةً لإقامة بعض الواجبات الشرعيَّة التي قد لا يتسنَّى أداؤها إلا من خلال هذه الأطر. فلا ينبغي إذن أن تنقلب الأمور، ويصبح الولاء لهذا التجمُّع أو ذاك ذريعةً لقطع الولاء عن بقيَّة العاملين، أو مشوِّشًا على المفهوم العامِّ لجماعة المسلمين، فيتحوَّل إلى غايةٍ وقد كان وسيلة، ويصبح منتهى السعي وقد كان شوطاً من أشواطه، ويتمزَّق به ولاء الأمَّة بدلاً من أن تجتمع به وتتوحَّد من خلاله!! ويوم أن تصبح هذه التجمُّعات مفرِّقةً للكلمة، أو مشوِّشةً على الولاء العامِّ للإسلام والجماعة، فإنَّ شرعيتَّها من الأساس تكون موضع نظر، لما تقرَّر من أنَّ الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلاًّ وحرمة. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "لمَّا كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها، فوسائل المحرَّمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبَّتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعةٌ للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنَّه مقصودٌ قصد الغايات، وهي مقصودةٌ قصد الوسائل، فإذا حرَّم الربُّ تعالى شيئاً وله طرقٌ ووسائل تفضي إليه، فإنَّه يحرِّمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمها، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل، والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كلَّ الإباء". وإذا كان مفهوم "جماعة المسلمين" لا ينطبق على التجمُّعات الموجودة، ففي هذا الإطار ماذا تكون "البيعة" التي يعطيها المسلم لبعض هذه التجمُّعات حين التزامه بها؟ وما إلزاميَّتها؟ أمَّا البيعة التي تُعطَى لأيِّ تجمُّعٍ فهي ابتداءً بيعةٌ على عملٍ صالحٍ يتَّفق مع مقرَّرات الشرع؛ كفعل الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البرِّ والتقوى، والمقصد منها الالتزام بالعمل الذي تمَّ الاتفاق عليه بين الطرفين، بصرف النظر عن الأوصاف والمسمَّيات. وأمَّا إلزاميَّتها فهي لا تأخذ حكم التعاقد الملزم بين أطراف العلاقة التعاقديَّة، ولا يترتَّب عليها التزامٌ بين المتعاقدين إلا بقدر ما تسبِّبه من ضرر، فالبيعة التي تُعطَى لهذه التجمُّعات لا تخوِّل لأمرائها الحقَّ في السمع والطاعة المطلقة، وإنَّما هي بمثابة العهد أو العقد، وقد جاء في فتاوى المذهب الحنفيِّ ما نصُّه: "رجلٌ أعطى العهد لشيخ، ثمَّ أعطاه لآخر، أيُّ العهدين يلزمه؟ قالوا: لا هذا ولا ذاك!". فإن فارق الشخص تجمُّعه، وقد التزم معه بعمل، فلا شيء عليه، بشرط ألا يُخلَّ فراقه بالتزامٍ تَعهَّد به وترتَّب عليه ضرر على الطرف الآخر، شأنه تماماً كشأن المتعاقد الذي أخلَّ بتعاقده فوقع الضرر بسبب ذلك على الطرف الآخر، فلا يمكن بحالٍ إكراهه على الاستمرار في التجمُّع، أو اعتبار تحلُّله من عهده وانتمائه "خروجا" على "جماعة المسلمين".
الثاني: الالتزام بالطاعة لـ"جماعة المسلمين" بمفهومها العامِّ والشامل، دون الالتزام بتجمُّعٍ بعينه، مع الالتزام بالعمل للإسلام حتى ولو كان وحيدا، والاكتفاء في هذه المرحلة بإقامة صلاتٍ متوازنةٍ مع كافَّةٍ التجمُّعات الإسلاميَّة وبذل النصيحة الواجبة لأصحابها، والتعاون معهم جميعاً على ما عندهم من خير، دون الالتزام العضويِّ بأحدها إلى أن يأذن الله بتجاوز هذه الفرقة وتقام جماعة المسلمين. مع التذكير بأنَّ في ديننا ما اقتضت الضرورة الشرعيَّة الاجتماع لأجله، فالعديد من فروض الدين لا تقوم إلا بالاجتماع، كالاجتماع لأداء الفرائض كالجمع والجماعات، وكالانتصار للدين، ومجاهدة المنافقين والكافرين ونحوه، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب. وعموماً فتحديد أيِّ اختيارٍ من هذين الاختيارين مردُّه إلى المسلم نفسه، فحيث يرى نفسه أنفع فليذهب إلى ذلك دون تردُّد، فالانفراد وسيلة، والانتماء وسيلة، والغاية هي المراد، وما يحقِّق الغاية أقصى تحقيقٍ يصبح مراداً أيضا. وأخيرا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعيَّة والمفسدة الشرعيَّة فقد يدع واجباتٍ ويفعل محرَّمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة خلف الذين فيهم بدعةٌ أو فجور، ويرى ذلك من الورع". فالموازنة.. الموازنة.. الموازنة، والنظر في الغايات لا الوسائل..
والله أعلى وأعلم. هذا هو ما تراءى لي أخي والإخوة الكرام قرَّاء الباب، أرجو أن أكون قد أجبت على التساؤلات الحائرة، وأسأل الله تعالى أن يكون ما كتبت حقّا، وأن يغفر لي زلاَّتي إن وجدت.

التنظيم أم الاسلام

كان هذا رد الدكتور فتحي يكن على أحد الاخوه السائلين عن تعارض مصلحة التنظيم الدعوه ومصلحة الاسلام وأيهما أولى بالاتباع عند الاصطدام من موقع اسلام اون لاين
******
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وخدم الدين، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، وبعد..
لكم عجبت لهذا السؤال الذي وصلني، وتلكم الإشكالية التي طرحت علي، ذلك أنه لا وجه للمقارنة بين أهمية العمل لمصلحة التنظيم وأهمية العمل للإسلام عند التعارض أو عدم التعارض.

إن انتماءنا للإسلام في الأصل هو الذي يجعلنا مسلمين، ويحشرنا في زمرتهم يوم الدين، والانتماء للتنظيم ليس بديلا عن ذلك، وإنما هو وسيلة لحسن تحقيق ذلك، وصدق الله تعالى حيث يقول: (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس).

إن الأنبياء والمرسلين والعلماء والدعاة، كما المؤسسات والتنظيمات والجماعات والحركات الإسلامية، إنما هم مكلفون بخدمة الإسلام، وحمل رسالته، وتبليغ دعوته، والجهاد في سبيله كما يقول تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين).

ثم إن الحكم الإسلامي والحكومات الإسلامية والخلفاء، ليسوا إلا أداة لخدمة الإسلام وتنظيم الاحتكام إلى شرعه، وليس لهم أن يحيدوا عن الإسلام قيد أنملة: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

إن الإسلام هو دين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المنهج الذي يتعبد المسلمون به ربهم، أفرادا وتنظيمات وحكومات، أما التنظيمات وأهلها والعاملون فيها فهم خدام للدين، والمسخرون للعمل من أجله، وليسوا بمعصومين عن الخطأ والزلل، وجميعهم يؤخذ منه ويرد عليه، وهؤلاء كلهم يعرفون بالدين، ولا يعرف الدين بهم.

فالتنظيمات تخطئ وتصيب، وتنجح وتفشل، وهي تزدهر ثم تندثر، فلكم قامت تنظيمات عبر التاريخ الإسلامي ثم أصبحت أثرا بعد عين، أما الإسلام فهو الباقي والمستمر والمحفوظ، مصداقا لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
إن مجرد استهداف التنظيم بالعمل هو لون من ألوان الشرك، والله تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو سبحانه القائل: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).
ولقد وعى مؤسسو الحركات والتنظيمات الإسلامية الراشدة تلك الحقيقة الثابتة، فنجد - على سبيل المثال - يوم أسس الأستاذ حسن البنا "جماعة الإخوان المسلمين" واختار لها شعاراتها، لم يجعل للتنظيم أدنى نصيب بينها، فقال: "الله غايتنا، الرسول قدوتنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا".

أذكر أنني - في الستينيات - ألقيت خطابا بمناسبة افتتاح مركز للعمل الإسلامي في مدينة صيدا، وكان في الحضور حشد من العلماء، قلت في مطلع الكلام: "هنالك قضية يجب أن ندركها تمام الإدراك، ونعيها تمام الوعي، ونذكرها دائما ولا ننساها، وبخاصة لدى افتتاحنا اليوم لمركز من مراكز العمل الإسلامي في لبنان، وهي أننا مسلمون قبل أن نكون "إخوانا مسلمين"، وأننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين..

فالإسلام قبلنا وبعدنا، وبنا وبدوننا، وإن نتولى يستبدل الله قوما غيرنا ولن نضره شيئا، وسيجزي الله الشاكرين، أوليس هو القائل في محكم كتابه: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين)".

إن التنظيم الذي يخلص عمله لله، بعيدا عن أية نفعية أو وصولية، هو التنظيم الذي لا يرى له مصلحة إلا مصلحة هذا الدين، ويرى في غير ذلك لونا من ألوان الشرك، ووقوعا فيما نهى الإسلام عنه وحذر منه، إن هذا التنظيم - إن وجد - هو الجدير بنصر الله وتأييده، وبإمامة المسلمين وقيادتهم.

في ضوء كل ذلك يكون المطلوب دائما وأبدا تجريد العمل للإسلام من كل لوثة وصولية، أو غرض فردي أو جماعي أو تنظيمي، انسجاما مع خلوص العبودية لله تعالى، الذي أكدته وأكدت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

وبحسب هذه المعادلة يكون الولاء لله تعالى وحده، كما يكون شرط السمع والطاعة للقيادة: طاعتها له والتزامها شرعه، فالطاعة بالمعروف ولا طاعة بالمعصية، وفي الحديث: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة" رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
وفي خطبة الولاية لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم".
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته" رواه أبو داود بسند صحيح.
ووفق هذه القاعدة يصبح شرط الانتماء إلى التنظيم تحقيق الانتماء للإسلام والتزام مبادئه وقيمه، وحمل رسالته، وتبليغ دعوته، والاحتكام إليه، والجهاد في سبيله.
مع الإشارة والتأكيد على أن هذا المفهوم ليس مدعاة للتقليل من أهمية التنظيم، وإنما سيق للتمييز والتفريق بين الوسيلة والهدف، كما بين الخادم والمخدوم سواء بسواء، سائلا الله تعالى الهدى والسداد واتباع طريق الحق والرشاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Friday, May 2, 2008

بداية


عالأصل دور


مدونة


تبحث عن أصول الأمور التائهة

للعوده الى النبع الصافي

للعوده الى الحقيقه

في زمن تاهت فيه الالفاظ

وغربت فيه الأصول


والله المعين